السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخي الكريم، أنا لا أعلم مدى معاناتِك، ولا أعلم ما فعله لك أقربائُك فسبب لك كل هذا الضرر. لكنني أتفهم وضعك قليلًا لأنني مررت ومازلتُ أمرّ بشيءٍ مشابه. مهما كان الذي مررتَ به، فمن الطبيعي أن تتأثر نفسيًا ويتعب قلبك ويتشتت تفكيرك، لأن النفس البشرية تتألم، وخصوصًا حين يأتي الأذى من القريب. وهذا لا ينتقص منك ولا من قوتك، بل يدل أنك إنسان تشعر وتحس، وهذا في حد ذاته نعمة. لكن ما أعلمه أن شفاء نفسك ونفسي ونفوس الناس أجمعين لا يتحقق إلّا بالقرب من الله. ربما ترى كلامي غير حقيقيّ ومجرد مواساة، لكنني أتكلم بجديّة. أوليس خالقي وخالقكَ هو الله؟ وهو سبحانه القائل: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِير﴾. وهو سبحانه القائل أيضًا: ﴿أَلَا بِذْكِرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب﴾. فإذا ذكرتَ الله اطمئن قلبك، وإذا اطمئن قلبُك هدأت نفسك واستأنست بذكر الله، لأنه سبحانه يقول في حديثٍ قُدسيّ: "أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ منهم، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بذِراعٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً". أتعلم ماذا يعني أن يذكرك ملك الملوك؟ يعني أنك في معيّة الله وحفظه ولا يستطيع أي بشر أن يمسك بسوء إلا أن يشاء الله. الذكر يزيل إحساس العزلة والوحشة؛ لأنه يمنحك اليقين بأن الله معك، وهي معية خاصة تعني العناية والتوفيق والحفظ. ومع ذلك، الإنسان يحتاج إنه يسمع ألمه ويعترف به بينه وبين نفسه، لأن كتمان التعب يزيده، والضغوط لو ما اتفهمتش ممكن تتحول لقلق وتوتر وأرق… فحاول دايمًا ما تظلمش نفسك وإنك لا تعتبر التعب ضعف، لأ، التعب علامة إنك محتاج تهتم بقلبك شوية. هناك قولٌ يُنسَب للإمام الشافعيّ، يقول: "إذا لم تشغل نفسك بالطاعة، شغلتك بالمعصية". هكذا هي النفس، وكذلك الشيطان يتربص إلينا في أوقات الفراغ والحزن؛ لذا عليك أن لا تترك نفسك للشيطان. وهذا لا يعني أنني أقلل من ماهية شعورك أو ضيقك، أبدًا، لكن كمان الفراغ النفسي والعاطفي بيزود التفكير الزايد، فاشغال النفس بما ينفع—حتى لو شيء بسيط—بيخفف حمل المشاعر ويقلل من الدوران في الماضي. بالنسبة لأقاربك أو عائلتك، لا أدري ما صلة قرابتهم بك تحديدًا، ولكن على كل حال إن كانوا من عائلتك أو أقربائك من بعيد، فأظن أنه من الأفضل أن تتفادى أذاهم بقدر استطاعتك. وهذا شيء منطقي وصحي نفسيًا، لأن النفس لها طاقة، والاحتكاك المستمر مع الأذى بيستنزف الإنسان مهما كان قوي. فإن لم تستطع، وكان لابد أن تختلط بهم، فعليك أن تصبر على أذاهم قدر ما تستطيع وتتعامل معهم بهدوء وبمسافة تحميك، وهذا ليس قطع رحم بل حفظ للنفس. كيف ستفعل هذا؟ قال الله عز وجل: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَلاةَ﴾. أما إن كانوا من أسرتك، خاصةً إذا كان أحد والديك، ففي هذه الحالة عليك أن تتقبل الأمر بقدر ما تستطيع، وتدعوا الله أن يهديهما وتصبر عليهما بنيّة رضا الله وبرّ الوالدين، لكن الصبر لا يعني أن تلغي نفسك أو تتجاهل مشاعرك. من الطبيعي أن تتضايق، ومن الطبيعي أن تحتاج مساحة ترتاح فيها، وهذا لا يتعارض أبدًا مع البر. البر لا يعني أن تعرض نفسك للأذى بلا حدود. إن كانت أذيتهم لك في الماضي تؤثر عليك، فهنا لن تستطيع النسيان بسهولة، لكنك ستتناسى الأمر وتحاول أن تتأقلم ، وأن تتقبل نفسك بكل جروحها وأن تتعافى بالتقرّب إلى الله، وأنا أنصحك بقراءة كتاب "تعافَيْت". ومع هذا، التعافي ليس معناه أن تنسى فجأة؛ التعافي إنك ما تسيبش الماضي يسيطر على حاضرك، وإنك لو حسّيت بشيء في نفسك ما تكدّسهوش، حاول تفضفض لشخص تثق فيه، أو على الأقل تكتب مشاعرك لنفسك. وإن كان أذاهم مازال مستمرًا، فعليك بالتغافل والصفح قدر ما تستطيع، أولًا لأن التغافل سنة عن النبيّ ﷺ، وثانيًا لأنهما والديك ولهما حقٌ عليك، ورضا الله من رضا الوالدين، وثالثًا لأنك عليك ألّا تقابل الإساءة بالإساءة. لكن الصفح لا يعني أنك لا تضع حدًا يحميك من استمرار الأذى، بل يعني أنك لا تحمل الحقد في قلبك، وفي نفس الوقت تحافظ على نفسك وعلى استقرارك النفسي. قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وهذا منهج، لكنه لا يمنع أن الإنسان يقلل الاحتكاك بمن يرهقه. وقال أيضًا سبحانه: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، والعفو هنا مقترن بالإصلاح، أي أن النفس تكون قادرة على العفو دون أن تُظلم مرة أخرى. وغدًا نَقِفُ جَمِيعًا بَينَ يَدَيّ الرحمٰن ونُحاسَب، ولن يضيع حق أحد. لكن حينها ما سيُثقِل ميزانك وينفعك هو حُسن خُلقِك. وحسن الخلق ليس ضعفًا ولا تنازلًا، بل قوة نفسية وقدرة على ضبط ردود الأفعال وعدم الوقوع في دائرة الأذى اللي تتكرر. قال النبيّ ﷺ: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنةِ لمن ترك المراءَ وإن كان مُحقًّا، وزعيمٌ ببيتٍ في وسطِ الجنةِ لمن ترك الكذبَ وإن كان مازحًا، وزعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنةِ لمن حَسُن خُلُقُه». — رواه أبو داود. وقال أيضًا ﷺ: «ما من شيءٍ أثقَلَ في الميزانِ من حُسنِ الخُلُقِ». لذا عليك بالصلاة والصبر والدعاء والتغافل والصفح، وبإذن الله سيجازيك الله خيرًا؛ لأن الله لا يُضيعُ أجر المحسنين. ومع هذا كله، لا تنسَ نفسك، ولا تهمل وجعك، ولا تمنع قلبك من أن يطلب الراحة. أنت تستحق طمأنينة وسلام، والله أرحم بك من كل البشر.
آمين
تم النشر الأربعاء، ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥
ماشاء الله جزاك الله خيرا كلامك ريحني جدا بجد ربنا يجعله في ميزان حسناتك فيرإدخال السرور في قلب مسلم 💚💚
تم النشر الأربعاء، ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥
لعرض الإجابة في فدني اضغط هنا